
في زمن الحروب الهجينة، لم تعد المواجهات تُخاض بالسلاح وحده، بل بالكلمة، والعنوان، والتقرير “التحليلي” الذي يُقدَّم للرأي العام باعتباره قراءة محايدة، بينما هو في الواقع جزء من معركة مُحكَمة لتوجيه الإدراك وصناعة الشك. ضمن هذا السياق، تبرز منصة Sahel Intelligence كنموذج واضح لإعلام وظيفي، يتخفّى خلف خطاب استراتيجي، بينما يؤدي دورًا محددًا في استهداف دول بعينها، وفي مقدمتها الجزائر.
المنصة الإلكترونية ” Sahel intelligence ” التي تأسست قبل أكثر من عشرين سنة، ويشرف على خطها التحريري صامويل بنشيمون، ماريون زونفري، فريديريك باولتون وكارول بيديرمان، لم تُخفِ مع مرور الوقت اصطفافها السياسي. فالمواد المنشورة، خاصة تلك المتعلقة بالجزائر ومنطقة الساحل، تتقاطع في مضمونها، وتكرارها، وتوقيتها، مع سرديات تخدم أجندات معروفة، في مقدمتها نظام المخزن وحلفاؤه، في سياق إقليمي شديد الحساسية.
أحد أبرز الأمثلة على هذا النهج، ما نُشر بتاريخ 9 ديسمبر 2025 تحت عنوان: ” الجزائر: إنشاء وحدة خاصة من المرتزقة لتنفيذ عمليات سرية في الساحل”، بقلم فريديريك باولتون، غير أن التدقيق في الأرشيف يكشف أن “المعلومة” ليست جديدة، بل نسخة شبه مطابقة لمقال سابق نُشر في 4 جوان 2025 بعنوان مختلف، مع الحفاظ على نفس الاتهامات، ونفس البنية السردية، ونفس الغموض في المصادر، هنا لا نتحدث عن اجتهاد تحليلي، بل عن إعادة تدوير ممنهجة لرواية واحدة تُستعمل عند الحاجة.
هذا الأسلوب يخدم هدفًا مركزيًا وهو ضرب صورة الجيش الوطني الشعبي، ليس كمؤسسة عسكرية فحسب، بل كركيزة سيادية للدولة الجزائرية، فالاتهامات المروّجة تتناقض جذريًا مع عقيدة الجزائر المعروفة بعدم التدخل خارج حدودها، وباعتمادها على الحلول السياسية، والوساطة، واحترام الشرعية الدولية، وهي ثوابت جعلت من الجزائر فاعلًا إقليميًا مزعجًا لمشاريع التفكيك.
ولا تتوقف الرواية عند حدود منصة Sahel Intelligence، إذ تجد صداها سريعًا داخل المنظومة الإعلامية التابعة لنظام المخزن، فقد سارعت منابر مغربية، من بينها جريدة Essahifa، إلى إعادة نشر مضمون مقال جوان 2025، في عملية تبييض إعلامي تكشف وجود تنسيق دعائي أكثر منه عملًا صحفيًا مستقلاً.
العودة إلى الذاكرة القريبة تُظهر أن هذا السلوك ليس طارئًا، ففي نوفمبر 2021، روّجت المنصة ادعاءً خطيرًا حول لقاء مزعوم جمع مسؤولًا استخباراتيًا جزائريًا بزعيم جماعة إرهابية في منطقة تينزواتين الحدودية مع مالي، توقيت الادعاء جاء بعد أيام فقط من اغتيال سائقي شاحنات جزائريين، وفي مرحلة حساسة من مسار المصالحة المالية، ما يؤكد أن الهدف لم يكن الإخبار، بل ضرب اتفاق الجزائر لسنة 2015 وزرع الشك في الدور الجزائري.
هذا الاستهداف يتقاطع مع موقف الجزائر الثابت من قضايا الساحل، القائم على رفض التدخل الأجنبي، ومحاربة الإرهاب، والحفاظ على وحدة الدول، خصوصًا مالي، وهو موقف يتناقض مع سياسات المخزن والكيان الصهيوني وبعض القوى النيوكولونيالية، التي ترى في الفوضى وسيلة لإعادة ترتيب النفوذ.
التحول النوعي في كشف حقيقة منصة Sahel Intelligence جاء مع تحقيق نشره موقع The New Arab (TNA) بتاريخ 1 سبتمبر 2025، صنّفه بوضوح كأحد أدوات التضليل في الصراع الإعلامي بين المغرب والجزائر. التحقيق لم يكتف بتحليل المحتوى، بل حاول صحفيًّا مساءلة القائمين عليه، حيث تواصل مع صامويل بنشيمون، ماريون زونفري وفريديريك باولتون عبر عناوين البريد المنشورة رسميًا و النتيجة كانت فاضحة ” خوادم معطّلة، ورسائل بلا رد، وصمت كامل”، في مؤشر صريح على الهروب من أي مساءلة مهنية.
وزاد التحقيق في تعرية التناقضات، كاشفًا أن الجريدة الإلكترونية تدّعي العمل من باريس عبر شركة GIC Conseil، في حين تُظهر السجلات أن الشركة حُلّت سنة 2010، إضافة إلى أن النطاق الإلكتروني مسجّل في المغرب، وأن هيئة التحرير تفتقر لأي حضور مهني موثّق.
ما كشفته الوقائع من تكرار الروايات المفبركة، إلى الصمت المريب عند المساءلة، وصولًا إلى التناغم الواضح مع أبواق نظام المخزن، لا يترك مجالًا للالتباس فمنصة Sahel Intelligence ليست منصة تحليل، بل أداة ضمن معركة إعلامية أوسع تستهدف الجزائر وجيشها القوي، وفي زمن باتت فيه المعلومة سلاحًا، يصبح فضح هذه المنابر ضرورة سيادية، ليس دفاعًا عن صورة دولة فحسب، بل حماية للحقيقة من التزييف، وللرأي العام من أن يُقاد بروايات تُصنع في غرف مظلمة وتُسوّق على أنها “تحليل استراتيجي” وهي في الحقيقة أداة ضمن شبكة دعائية مخزنية–فرنسية–صهيونية، تُنتج السرديات وتعيد ضخها عبر قنوات مختلفة، بهدف التشويش على الدور الجزائري الإقليمي، وضرب مصداقية مؤسساته، ومعاقبة كل دولة ترفض الخضوع لمنطق الإملاءات والهيمنة.














