من التعليق إلى النقض: السيادة الجزائرية خط أحمر

في زمن تعلو فيه المصالح على المبادئ، لا تزال السيادة الوطنية خطًا أحمرًا يُحدد كرامة الدول وموقعها، وما قامت به باريس مؤخرًا يكشف عن وجه قديم بثوب جديد، لكنه لا يُخفي مرارة مستعمر تجرع من كأس الهزيمة يوماً.
الجزائر، بتاريخها الثقيل وذاكرتها النضالية، ليست دولة يمكن التعامل معها كطرف ثانوي أو كامتداد لمنظومة نفوذ ماضية، ومع ذلك، تطفو على السطح من حين لآخر مؤشرات تُظهر أن بعض القوى، وفي مقدمتها باريس، لم تنجح بعد في التخلص من عقدة ما بعد الاستعمار، بل تواصل تعاطيها مع الجزائر بمنطق استعلائي، مموّه بلغة دبلوماسية ناعمة.
السلوك الأخير الصادر عن السلطات الفرنسية، والمتمثل في فرض قيود على دخول بعض المسؤولين الجزائريين، لا يمكن قراءته إلا كخطوة استفزازية تحمل في طياتها دلالات سياسية واضحة، إنه ليس قرارًا إداريًا عابرًا، بل موقف يعكس ذهنية لم تتغير كثيرًا منذ عقود، وتحاول اليوم التعبير عن نفسها بأساليب جديدة، دون أن تُخفي جوهرها القديم
غير أن المثير في هذا السياق ليس فقط الإجراء ذاته، بل التباين الصريح في مقاربة كل طرف لمصير هذه الاتفاقية، فرنسا اختارت توصيف الموقف على أنه “تعليق مؤقت”، ما يعني في أعراف القانون الدولي أن الاتفاق لا يزال قائمًا لكنه متوقف عن التنفيذ، في انتظار إعادة تفعيله مستقبلاً إذا اقتضت الظروف. أما الجزائر، فقد استخدمت توصيفًا قانونيًا أقوى وأدق “نقض”، أي إنهاء الاتفاق من جانب واحد وفق الأطر القانونية المعترف بها، ما يعني أن الجزائر تعتبر الاتفاق منتهيًا وغير ملزم من أي ناحية.
الخطوة الأخيرة التي اتخذتها فرنسا بإيقاف امتياز دخول حاملي الجوازات الدبلوماسية الجزائرية إلى أراضيها، لم تكن مجرد إجراء إداري بل تعبيرًا ضمنيًا عن اختلال في منطق التعامل الندّي، وعن رؤية غير متوازنة تُحاول أن تفرض منطق الامتيازات أحاديًا، المفارقة أن هذا القرار جاء بعد سنوات من اتفاق موقّع سنة 2013 ينص على الإعفاء المتبادل من التأشيرة لحاملي الجوازات الدبلوماسية والرسمية.
هذا التناقض في تفسير الموقف القانوني يكشف أكثر من مجرد خلاف دبلوماسي، إنه يعري الفجوة بين من لا يزال ينظر إلى الجزائر كدولة يمكن مجاراتها بالشروط، وبين من اختار أن يؤسس لعلاقات قائمة على الاحترام والسيادة الكاملة، وبين هذا وذاك، فإن الجواز الجزائري ليس وثيقة عبور فقط، بل رمز لمعركة طويلة من أجل الاعتراف، وموقف سيادي لا يحتمل التجزئة.
وعليه، فإن الدفاع عن هذا الجواز هو دفاع عن ذاكرة أمة، لا مجرّد تضامن مع مسؤول أو إطار رسمي، ولا يمكن اختزال النقاش في شخص أو لحظة ظرفية، لأن ما هو مطروح اليوم على طاولة النقاش ليس ملف تأشيرة، بل حدود الكرامة الوطنية في علاقات دولية يفترض أن تكون مبنية على التكافؤ لا على الفرض.
إن هذا الظرف يستوجب لا فقط الرد، بل إعادة تقييم شاملة للعلاقات مع فرنسا، ووضع كل الاتفاقات الثنائية ضمن مراجعة متأنية، بدءًا من الجوانب التقنية إلى الملفات الرمزية الكبرى، التي لا تقل شأنًا عن قوانين تجريم الماضي الاستعماري أو استرجاع الأرشيف الوطني.
فالسيادة ليست شعارًا، بل ممارسة يومية تقتضي الحسم، لا الحيرة، وما يُمسّ اليوم من رمزية الجواز، قد يُمسّ غدًا من جوهر الدولة، لذا فإن الموقف الجزائري لم يكن وليد رد الفعل، بل إعلان نية سيادية تنهي من جانب واحد مسارًا لم يَعد يخدم مصلحة البلاد ولا ينسجم مع قيمها.














