
خمسة عقود مرّت، وما تزال الصحراء الغربية شاهدة على أحد أطول فصول الاستعمار المعاصر وأكثرها قسوة، فذاكرة الشعب الصحراوي تحمل جراحاً لا تزال مفتوحة منذ أن شرع النظام المغربي، يوم 31 أكتوبر 1975، في تنفيذ خطته التوسعية التي أفضت إلى دخول قواته إلى الإقليم، ممهداً بذلك لمرحلة طويلة من التهجير والقمع وتغيير البنية الديمغرافية للمنطقة قسراً.
وبعد أيام فقط من ذلك التاريخ، تحولت مناطق واسعة من الصحراء الغربية إلى مساحات مستباحة، إذ فُتحت الطرق أمام موجات بشرية من المستوطنين، خاصة مع مسيرة سنة 1991، حين جرى إرسال ما يقارب 200 ألف شخص بدعوى مشاركتهم في الاستفتاء الأممي المرتقب، غير أن الواقع كشف لاحقًا أن الهدف كان تعميق الاستيطان
بشكل مركّز ومع مرور السنوات وقد فُتحت لهؤلاء أنذاك المخيمات والمنازل والوظائف في محاولة لصناعة واقع ديمغرافي يفرض نفسه على أي مسار سياسي، لم يتوقف نظام المخزن المستعمر عن تعزيز وجوده الديمغرافي والاقتصادي فقط، بل غلّف خطواته بدعاية كاذبة تستهدف طمس الهوية الصحراوية.
أما على الصعيد الحقوقي، فقد شهدت المدن المحتلة سجلاً ثقيلاً من الانتهاكات، من محاكمات صورية وأحكام قاسية طالت حقوقيين وصحفيين وطلاباً وناشطين سلميين، شهادات مُسرّبة ومحاكمات مُفبركة وأجساد أنهكها التعذيب والإهمال الطبي، جعلت القضية الإنسانية في الصحراء الغربية محور إدانة أممية متزايدة، خصوصاً مع استمرار الاحتجاجات والوقفات السلمية التي تواجه بالقمع المنهجي.
وإلى جانب الاستيطان، ظل القمع حاضراً كأداة رئيسية لإحكام السيطرة، إذ وثقت الذاكرة الجماعية الصحراوية استخدام أسلحة محرمة دوليًا كالفسفور والنابالم في مناطق مثل أم أدريكة وأمكالا والتفاريتي، وهي جرائم تُقارن في بشاعتها بأنظمة التمييز العنصري التي شهدها العالم سابقًا.
أما المعتقلون السياسيون الصحراويون، فيختزلون اليوم جزءًا كبيرًا من معاناة الشعب، فمنذ أحداث أكديم إيزيك سنة 2010، يقبع عدد من أبرز النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان في سجون المغرب بعقوبات قاسية وصلت إلى المؤبد، يتصدرهم الأسير الحقوقي نعمة أسفاري الذي تعرض للتعذيب الممنهج لتعصيب شهادة المقاومة، و ما عانته سجينة الرأي محفوظة لفقير التي قاومت الإهمال الطبي الذي شكل بحد ذاته عملية إعدام بطيء انتهجها المستعمر المغربي ضد النشطاء .
وفي المخيمات الصحراوية بالعيون والسمارة والداخلة، تدور معركة أخرى لنساء تصدّين وحدهن للقمع اليومي، مثل المناضلة سلطانة خيا التي فقدت عينها وبعض قدراتها الجسدية في سبيل الوطن، كما تعرض منزلها للحصار المطلق لأشهر، لتمنع من العلاج والخروج والزيارات، في محاولة لكسر صوتها الذي لم يخفت رغم الشراسة.
ولا تقتصر الذاكرة الصحراوية على الحاضر فقط، بل تمتد إلى سنوات الاختفاء القسري، حين اختطف نظام المخزن المئات خلال الثمانينيات، بعضهم عاد بعد عقود من السجون السرية، فيما آخرون ما يزال مصيرهم مجهولًا إلى اليوم، تنتظرهم أمّهات تَكَبَّدن العمر كله بحثًا عن أثر.
ورغم تعاقب المبعوثين الأمميين، من بينهم ستافان دي ميستورا، فإن الانتهاكات ضد المدنيين لم تتوقف، وما تزال الاحتجاجات السلمية في المدن المحتلة تواجه بالقمع والأحكام الثقيلة، مثل ما حدث مع معتقلي أكذيم إيزيك والطلبة الصحراويين.
وفي سياق متصل، اتسع التضامن الدولي مع الحق الصحراوي في السنوات الأخيرة، لا سيما بعد قرارات محكمة العدل الأوروبية التي اعتبرت أن ثروات الإقليم لا يمكن استغلالها دون موافقة شعبه، ما شكّل صفعة قانونية وسياسية للاحتلال المغربي وحلفائه، كما أصرّ الاتحاد الإفريقي على احترام عضوية الجمهورية الصحراوية، ورفض أي محاولة لإقصائها أو تغييبها من المنصات القارية.
وبرغم محاولات الاحتلال المغربي وحلفائه فرض الأمر الواقع عبر القوة والدعاية والتضييق، ظلّ الشعب الصحراوي متمسكًا بخيار الصمود كهوية وركيزة وجود، فقد أفرزت خمسة عقود من المواجهة جيلاً جديداً لا يعرف اليأس، تشكّل وعيه في قلب المعاناة، وتربّى على الإيمان بأن الأرض لا تُمنح، بل تُنتزع بالثبات والإصرار، فقد أصبح حضور القضية الصحراوية واقعاً لا يمكن تجاوزه في السجالات الحقوقية والسياسية الدولية، ويبقى اليقين قائماً بأن صوت من قاوم دفاعاً عن أرضه وكرامته سيجد طريقه في نهاية المطاف إلى التاريخ وإلى العدالة.














